قراءة في رواية “في المطار أخيراً”

بقلم طارق بنات

في زمن تتهاوى فيه الثوابت، وتتحلل فيه المعاني التي اعتدناها عن الانتماء والهوية، تكتب
الكاتبة السورية لجينة نبهان روايتها “في المطار أخيرًا” كأنها تنظر في مرآة مكسورة، ترى
فيها انعكاسات الذات المعاصرة وقد تحوّلت إلى شظايا متناثرة من قلق وتيه وحنين لا وجهة له،
ليست هذه رواية عن مطار كما يبدو في العنوان بل مساحة رمادية لا تبدأ ولا تنتهي، خالية من
الاتجاهات لكنها مشحونة بكل ما فُقد، المطار عتبة لحالة إنسانية تقف بين احتمالين متناقضين،
لا تمتلك أحدهما، فتنغمس في الانتظار لا كفعل، بل كمصير نهائي عالق بين ما كان يجب أن
يكون وما لن يكون، لأن ما جرى لا يمكن وصفه، وما لم يجرِ بات احتمالًا مخيفًا.

تكتب نبهان بأسلوب سردي لا يتكئ على حبكة تقليدية، بل على حركة داخلية تتبع انكسار
النفس، تجعل من الراوي شخصية غير مركزية في الواجهة، وما يمكن تسميته هنا بالراوي
العليم المنكفئ الذي يعرف كل شيء، لكنه يختار التواري، يتراجع دون أن يغيب، يراقب دون
أن يتدخّل، يمنح الشخصيات مساحاتها لا لتتحرك فقط، بل لتتكوّن وتتكسّر وتتأمل، لا يفرض
تأويلًا، بل يترك الحكاية تتشكل في فراغ مدروس، وهذا ما يمنح الرواية صوتًا داخليًا أكثر
عمقًا، كأنها تُروى من الداخل لا من الأعلى، تسمح للقارئ أن يقترب دون وسائط، أن يتلمّس
التشظي كما لو كان يخصه.

تمضي الرواية دون صخب أو ذروة درامية، بل بتموجات هادئة، تقودنا إلى صوت بعيد لا
نعرف مصدره، لكنه يستقر في الداخل كشيء يشبه الاعتراف، لا تهتم الرواية بأن “يحدث
شيء”، بل بأن “يحدث فينا شيء”، تتركنا أمام تساؤلات لا إجابات لها، تتنقل بنا بين تجارب
فردية تحمل طابعًا جماعيًا، وكأن الألم، حين يُكتب جيدًا، لا يعود حكرًا على أحد بل يطال
الجميع.

الحبكة مبنية على الشظايا، لا على التراتب، لا نلحظ بداية واضحة، ولا نهاية محددة، بل زمن
يتنقل بين الماضي والحاضر كما يتنقل الحنين بخفة بين مشهدين، كل لحظة تبدو وكأنها تجرّ
خلفها ظلًا من لحظة أخرى، لا وجود للحدث بوصفه “ما جرى”، بل بوصفه ما لم يكتمل، أو ما
ظلّ عالقًا كخيط في ذاكرة مكسورة.

في هذه الرواية يصبح المطار استعارة مفتوحة، لا يُعدّ مجرد منطقة عبور، بل فجوة ممتدة بين
ما نتركه وما لا نصل إليه، شخصيات الرواية تعيش في هذه الفجوة، لا كرموز، بل كضحايا
حقيقيين، تمزّقهم الاحتمالات الغامضة بين الهروب والبقاء، منهم من يختبئ خلف الكلمات، لا
ليقول الحقيقة بل ليضللها، ومنهم من يصمت لأن الكلام صار أثقل من أن يُقال، لا يتطورون
كما في الروايات الكلاسيكية، بل يتشظّون، يتوقفون، يعيدون تشكيل ذواتهم من الفتات، ليس
بحثًا عن خلاص، بل فقط للامتثال لحتمية وجودية غير مفهومة!

اللغة هنا ليست وسيلة وصف، بل وسيلة إصغاء، مكثفة، ناعمة، لا تبحث عن البلاغة، بل عن
التأمل الذي تتركه الجملة خلفها، كل عبارة قصيرة كأنها نفس محبوس، أو كرسم بأطراف
الأصابع على نافذة غائمة، اللغة تعبر بين الواقع والخيال دون أن تنفصل عن أحدهما، وتترك
القارئ في حالة يقظة داخلية، كما لو كان يقرأ نفسه.

في الثيمات، لا نجد خطابًا صريحًا عن الوطن، أو الهوية، أو المنفى، لكنها كلها حاضرة بهدوء،
كامنة في التفاصيل، في كوب القهوة الذي لم يُشرب، في المكالمة التي لم تحدث، في حقيبة لا
نعرف إن كانت معدّة للعودة أو للمغادرة، كل خسارة صغيرة تتضخم حتى تصبح حياة كاملة،
وكل لحظة مؤجلة تتحول إلى ذاكرة معتمة، أما الحب فليس علاقة طبيعية في هذه الرواية، بل
تجربة هشّة تحاول الإمساك بالحياة قبل أن تفلت، لا أحد يحب بسهولة، ولا أحد يكره بوضوح،
كل شيء معلّق.

“في المطار أخيرًا” عمل أدبي لا يعدك بشيء، ولا يقدّم أجوبة، ولكنه يذكّرك بأننا مهما توهّمنا
اليقين، نظل واقفين عند أبواب مريبة نجهل ما وراءها، ولا تترك لنا سوى سؤال وحيد: هل
سنظل في المطار إلى الأبد، أم أننا سنغادر ونحن نحمل في حقائبنا قطعًا من أنفسنا لا نعرف
كيف نعيد ترتيبها.