عن الحزب والحياة وسجون الأسد
بقلم علي سفر
بقيت تجربة السجن في سوريا حاضرة طيلة العقود السابقة، بوصفها نصًا مفتوحًا على مساهمات من عاشوها، وربما يكاد السجل الذي دوّنه الناشطون السوريون هو الأوسع في تعداد جرائم السلطة الديكتاتورية الأسدية، فقد كتبه هؤلاء من أجل ألا يُنسى ما حصل معهم، بعد أن غرز في نفوسهم مخالبَ ليس من السهل أن ينساها ضحاياها، وهم يخوضون آلامًا موزّعة بين الأذى الجسدي في جلسات التعذيب أو الأذى النفسي والروحي بسبب طول مدة التوقيف التي وصلت لدى البعض إلى عقود.
الكاتب السوري نصار يحيى، وقد خاض التجربة منذ العام 1982 وحتى عام 1991، ترك التفاصيل هامدة في ذاكرته، وقرّر منذ فترة أن ينشر الحكاية التي عاشها ضمن تنظيم رابطة العمل الشيوعي، التي تحوّلت إلى حزب في العام 1980، وحالة الاعتقال، التي ترك خلالها الحياة الحزبية. وعلى مدى 21 حلقة سردية روى فيها الحيثيات من وجهة نظره، فصار أن الكثير ممن رافقوه وزاملوه في ذلك الزمن ذهبوا معه هذه المرة ليستعيدوا ما جرى، وليفتحوا النقاش عما جرى معهم، وكيف كانت التجربة ذات الأوجه المتعددة تستحق أن يُعاد سردها كل مرة، من أجل ألا تغيب بعيداً، وكذلك بغية أن يعرف الذين سمعوا وقرأوا عنها أنها تحتمل المراجعة والإضافة والحذف أيضًا.
لكن كيف يحدث أن يسجّل سجين تدمر وصيدنايا هذه المذكرات الثرية بعد أكثر من ثلاثين سنة على نهايتها؟ أسأل نصار عن دوافعه ولماذا تأخرت كل هذا الزمن، فيجيب: “لم يكن هناك قرار دفعني للكتابة عن التجربة، إنما محاولة إحياء تجربة أخذتْ منا – نحن أصحابها – حيزًا استوطن الذاكرة كتجربة معاشة (معيوشة بالتعبير الهوسرلي). لكن لماذا تأخرتْ؟ هسهسات الكتابة لها توقيتها الخاص، وإن تدخل الوعي القصدي، أقول إن الكتابة عن تلك المرحلة ربما فيها بعض “الفرفدة” البعيدة عن التحزبات أو الكتابة ذات الصيغة السجالية”.
الحلقات التي نُشرت في فيسبوك في الفترة الماضية صارت كتابًا حمل عنوان “ظلال الذاكرة من تدمر إلى صيدنايا”، صدر قبل أيام عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، وبعد أن صارت أبعد امتدادًا وأشد توثيقًا من مجرد كونها سردات من الذاكرة، يظهر فيها اشتغال نصار على دقائق الأمور التي جرت في الحالة الحزبية النضالية ما بين فسحة الخارج، حيث السعي لبناء التنظيم اليساري وتحصينه لمواجهة الواقع الأمني في بلد تسيطر عليه ديكتاتورية عسكرية تخوض صراعًا دمويًا مع تنظيم جهادي هو الطليعة المقاتلة، والواقع السياسي على جهتين: الجدال مع تنظيمات اليسار السوري التي لم تتكفّل مواجهتها للسلطة بدفعها نحو التوحّد، بل زادت في شقاقها مع بعضها، وكذلك الجدال الداخلي حول شعار المرحلة والآخر الاستراتيجي. وهنا يمكن تصور العثرات التي عاشها أولئك الشباب الذين رأوا أن مشروع تغيير العالم يبدأ بالنقاشات الأيديولوجية التي عبّروا عنها في مجلتهم النظرية “البروليتاري”، وبجريدة “الراية الحمراء” الناطقة باسم الحزب، وبنشرة “النداء الشعبي” الذي كان موجّهًا للجماهير المستهدفة، فضلًا عن البيانات التي كانوا يصدرونها ويوزعونها بأيديهم في شوارع وحواري الأحياء الشعبية في عتمة الليل خشية الوقوع بأيدي رجال الأمن الأسدي.
وفي طور تحوّلها إلى تجربة في المعتقل، أي في الحيّز الداخلي، فإن أول ما يستحق الإشادة به مما دوّنه نصار إنما هو عدم الاستغراق في ألم السجن وقسوته، بل النظر إليه كمجال مركّب للبحث عن الحياة، أي القدرة على تجاوز محنة القيد والحرمان، إن كان في الزنازين المنفردة أو في الزنازين المزدوجة أو في المهاجع الجماعية في سجون الأفرع الأمنية، قبل الانتقال إلى سجن تدمر الصحراوي الذي ارتبطت به صفة الرهيب بسبب فجائعية الأعمال التي ارتكبها الأسديون بحق سجناء التيار الإسلامي السوري، ابتداءً بمجزرة نفّذتها وحدات سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، بعد محاولة اغتيال فاشلة استهدفت حافظ الأسد، مرورًا بالقتل المديد عبر ترك السجناء عرضة للموت بسبب الأمراض، وصولًا إلى حفلات الإعدام اليومية بعد أحكام محاكم صورية شكّلها حافظ الأسد ليفتك بمعتقلي جماعة الإخوان المسلمين.
في هذا السجن جرت تفاصيل كثيرة يحكي عنها نصار، ويظهر عبرها كيف حاول أولئك الشباب استغلال الوقت من أجل ألا يحوّلهم السجن إلى كائنات بلا فعالية ذهنية، تقتضي منهم أن يعيدوا النظر فيما فعلوه وبما جعلوه نظامًا يتحكّم بنشاطهم الحزبي. يذهب الكاتب في حديثه عن تجربته الحزبية التي انتهت بين جدران السجن بسبب اختلاف الرؤى، وربما النضج في تناول الأمور، إلى الحديث التفصيلي عن الجدل الحزبي، فيذكر الأسماء وأقوال أصحابها، ويضع الرؤى التي جعلتهم يتمسكون بما اعتقدوا أنه صالح لزمانه وربما لما بعد ذلك أمام عيني قارئ قد لا يلمّ بكل ما اعتور التجربة، لكنه لا بد أن يدرك، وعبر موازين الحاضر الذهنية، كيف تشكّلت الحالة النظرية وتجسيدها في التجربة الحزبية، وكيف انتهت في المحصّلة إلى ما يشبه الانهيار بعد نهاية مرحلة السجن.
أسأله عن دلالات ذكر الأسماء الصريحة للأشخاص الذين منحهم حيزًا كبيرًا في تبيان أسباب تركه للحزب، وعن الخشية من أن يتسبب لهم بالإحراج أو أن يزعلوا منه، فيقول: “أنتِ تعلم صديقي، هذه السردية الخاصة عن السجن، بما تعنيه بمكان ما توثيق للتجربة، كان من الاستحالة بمكان الاستغناء عن الأسماء الحقيقية. حاولت التحايل أحيانًا، عن حالات اضطررت للاعتراف بالشكل الفضفاض، ألا أذكرها بالاسم الحقيقي، أو طريقة اعتقال أحد القياديين الأساسيين عند أحدهم، هنا لجأت لمتخيّل يحاكي الحالة، إنما بشخوص مختلفين.. كذلك عن اللعبة السردية حول هشام وعبير و”شلتها”.. لكن الحدث الرئيس كان معنيًا بورود الأسماء الحقيقية.. نعم أخشى، ومن الطبيعي ذلك. أتوقع أنه عندما يكون هناك قارئ منصف وليس لديه موقف مسبق – من أصحاب التجربة – سيجد أنني حاولتُ محاكاة صيغة: أنا – نحن أو نحن – أنا، وليست صيغة: أنا – هم.. بمعنى حاولت السرد بطريقة تعدّد الأصوات، وأن أكون كما غيري دون نرجسية أو أنوية متحكمة كما السارد العليم في السرد التقليدي.. هل استطعتُ إلى ذلك سبيلًا؟ هنا سأحتكم للقارئ”.
لم يكن السجن الذي يتحدث عنه نصار مكانًا تقتصر مفرداته على ما يعرفه قارئ أدب السجون، بل مكانًا يأخذ السجين نحو أطوار مختلفة، فهو يدخله كضحية للسجان الذي يسيطر على الحياة في الخارج، لكن سرعان ما ينتفض فيه ضده، وضد الأفكار التي جاء بها إلى المكان. فبالنسبة للسجين الحزبي اليساري، ثمة مساحة لاكتشاف ما هو أبعد من الحيثيات النظرية المحددة في الإطار التنظيمي، نحو النظرية الفكرية وتجاورها في السياق مع غيرها، واكتشاف أن ثمة فضاءات مختلفة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر القراءة الحرة، الأمر الذي يصنع خلخلة في الجدار الأيديولوجي الصلب. وعبر سلسلة وقفات الاطلاع الفلسفي والنقدي، يمكن للسجين مغادرة الأيديولوجيا ذاتها بعد مغادرة الانتماء الحزبي.
ويندرج ضمن المسار ذاته التوغّل أكثر في حياة ثقافية تغادر الواقع عبر إصدار مجلة (أسموها رؤى)، يعبر النزلاء على صفحاتها عمّا وصلوا إليه من ضفاف إبداعية، وينزع المسرحيون منهم نحو بناء خشبات مسرحية كبدر زكريا والكاتب والمخرج الراحل غسان الجباعي.
وبهذا المعنى يمكن للكتابة عن تجربة صيدنايا ومن قبلها تدمر أن تكون كتابة عن الحياة التي يمكن أن تُعاش في مثل الظرف الاستثنائي، وتبعات التمرّد فيه، ويمكن أن تكون مساحة للنظر فيما جرى مع السجناء، وعائلاتهم، وزوجاتهم، وعشيقاتهم. وهذا حيز غير قليل التأثير على المعتقلين، وبعد سلسلة من الوقائع سيتكرر لدى نصار الحديث عن الشريكات والرفيقات اللواتي قررن، وبعد طول غياب رجالهن في المعتقل، أن يتخلّين عن الانتظار، وأن يمضين نحو اكتشاف علاقات أخرى بدلًا من البقاء أسيرات انتظار الشخص الذي قد لا يعود أبدًا. وهكذا تتخلى بينلوبي عن انتظار أوديسيوس الذي يذكره الكاتب في استهلاله كمثال حاضر عن التجربة الإنسانية في انتصاراتها وهزائمها. فهل يمكن اعتبار العودة إلى استذكار السجن ونتائجه هزيمة للسجين يكرّسها حضور الجدران المغلقة في مسارات تفكيره؟ وهل ثمة حالة أسر ذهني قد تبقى في العقل بعد الخروج منه؟” خطاب الأنا الواعية يقول لا، إنما أنا أميل للقول إن الإنسان “منطوق نفسي” أكثر منه منطقي، لذلك ربما مسكون بمكان ما من الذاكرة. تأتي الكتابة لحالة من “التطهير” والخروج أو العبور إلى ضفاف أخرى”.
لكن، ما الذي تمنحه لنا كقراء مغامرة نصار وهو يحاول التدوين عن التجربة الحزبية خارج وداخل السجن؟ أسأله عن موقع هذه الكتابة ضمن أدبيات أخرى تناولت الموضوع ذاته، فيذكرني بأسماء الكتب التي صدرت سابقًا:
•قصة حزب العمل الشيوعي للصديق راتب شعبو، كتاب مهم ولا شك، إنما عن تاريخ الحزب وما قبله من حلقات ثم رابطة، بالمعنى السياسي المباشر أو غير المباشر، حيث العنوان أخذ شكل ما يوحي بأنه عمل أدبي (قصة).
• ماذا وراء هذه الجدران / راتب شعبو أيضًا، وهي رواية أو، بالدقة، محاكاة لتجربة راتب السجنية المتنقلة ما بين كركون الشيخ حسن، وسجن عدرا، ثم الختام بسجن تدمر. مختلفة كليًا عن تجربتنا نحن المؤسسين للتجربة الأولى في سجن تدمر، إذ لم نلتقِ نهائيًا بالمكان مع الصديق راتب؛ اعتقاله كان لجهة الأمن السياسي، ومثلما تعرف فإن لكل فرع أو شعبة مكانها الخاص، أو الأدق أن الأمن السياسي هو الوحيد الذي انفرد ببعض الأمكنة مثل سجن عدرا.
•رواية الشرنقة لحسيبة عبد الرحمن، خاصة بتجربة صبايا حزب العمل في سجن دوما بشكل خاص.
•نيغاتيف / روزا ياسين حسن، حالة توثيقية لصبايا الحزب أيضًا.
•القوقعة / مصطفى خليفة، كما تعلم هي عن تجربة الإخوان المسلمين من خلال موسى الملعون ربه عدة مرات، وفقط يشير لنا الصديق مصطفى عندما ينقل بطله (المغضوب عليه) إلى سجن صيدنايا، وكانت فترة قصيرة حيث وضعوه في جناح الشيوعيين، قبل إخلاء سبيله.
أورد هذه التفاصيل* كي أقول – بحدود معلوماتي – إنه لم يُكتب عن تجربتنا بما هي تجربة بكل أبعادها، أقصد تجربتنا نحن من اعتقلنا في شباط وآذار 82 (الأمن العسكري)، ثم تحويلنا في صيف ذلك العام إلى سجن تدمر. هنا تأسست الحالة، وهنا كانت الرضّة الأولى – مجازًا – بالمعنى الفرويدي للصدمة التدمريّة وما تعنيه من تداعيات.
أما أين أضع تجربتي أو كيف أصفها؟ في الاستهلال حاولت القول: هي سردية خاصة اعتمدت أسلوب “الحكواتي”، لذلك كنت أضع العنوان لكل جزء: حكايا. ومن الطبيعي أنها تتشابه مع الحكواتي فقط في الشكل. توصيفي لها أنها تتضمن المحكي اليومي وتفاصيله، وفيها اللعب بالزمن، وفيها الاستعارة من الآخر الفلسفي أو الأسطوري، كي يتم الخروج من الحيز الضيق. لكن الأهم أنها حاولت إنعاش رائحة المكان الخاصة، ربما هذه الرائحة ستلتقي بمكان ما مع ما يسمى جمالية المكان (باشلار)، بمعنى الحيّزية الخاصة التي تشعرك بالدفء والحميمية مع “العازل”.
ما يلفت في التداعي السردي الذي يجتهد فيه نصار ضمن حكايات السجنين تدمر وصيدنايا، أنه يترك البوابة مفتوحة لكي يخرج منها كل شيء دون تقييد، وكأنه يستعيد ما فعله في كتابه السابق “شطحات على الشعر: سرنمات على جسد”، أي ذلك الاسترخاء الكامل في القول وترك الأرواح تنهض بما فعلته وستفعله، بما أحبته وكرهته، وما حلمت به أو ما طردته من أمام عيونها، وأيضًا ألا تخشى محاكاة واقعها بما ينقله لها الإحساس بأن الكتابة تقاوم الحبس كما تقاوم الزمن، فتحضر ضمن قولها اليومي وتداعياتها. فهل كان هذا الاستذكار ذهابًا إلى ضفاف آمنة بعيدًا عن الواقع المعاش والمكان الضيق؟ يجيب نصار ويقول: “نعم هي محاولة للخروج من المكان الضيق، وسأضيف، تلك الاستعارات الخاصة “سردية دانتي المتخيلة” أو استعارة شخصية عطيل المسرحية وذكر “ابن العم”، كانت حالة من حالات السرنمة الخاصة، التي تحمل دلالات تحفّز القارئ أو توحي ولا تصرّح، كما تقول المتصوفة: التلويح وليس التصريح. لم تكن استعارة مسرحية سعد الله ونوس / الفيل يا ملك الزمان استعارة عشوائية، وردت عندما كنا بمرحلة الفرع الأولى، وكيف كانت الأجواء مشحونة ومتوترة، ثم كان قرار الترحيل من اللواء علي دوبا (رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية آنذاك) إلى تدمر. وهذا ما تفعله إحداهن في زاوية متخيّلة في المسرح الافتراضي، وهي تردد أغنية فيروز: “يا رايحين مشرق لا تطولوا الغيبة”.
*بغرض التوثيق، يجب ألا يفوتنا ذكر كتاب الراحل عباس عباس “توقًا إلى الحياة”، الذي صدر عام 2015 عن دار الخيال – بيروت، بعد ثلاث سنوات من رحيل صاحبه السجين السابق.