سلة مشترياتك فارغة في الوقت الحالي!

الذاكرة وظلالها
بقلم مصطفى علوش
إذا كان هناك من جملة واحدة تلخص مرحلة حكم الأسد الأب والابن فربما هي: “الاعتقال السياسي”. حيث كان كل شيء مسموح في ذلك الزمن، ماعدا العمل السياسي المعارض.
في كتابه “ظلال الذاكرة من تدمر إلى صيدنايا” يوثق الكاتب “نصار يحي” لتجربة اعتقاله ورفاقه من حزب العمل الشيوعي في سجون الأسد الأب والتي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي.
بتقديري يعتبرُ هذا الكتاب أكبر من وثيقة من ناحية القيمة التاريخية، لأن صاحبه قد مزج الزمن بالمعرفة، وعجن انتظارات السجن برحيق اللغة، فأخرج الجمال الفني من قلب القهر اليومي والقمع، وكأنه أراد القول إنه يمكننا أن نكتب ولكن ونحن نغنّي مع الراوي، السارد لحيوات المعتقلين.
ومعه نتعرّف إلى أم ياسر مخلوف وهي تزور ابنها المعتقل ياسر، لكنها كانت تحمل في كل زيارة كمية كبيرة من المواد التموينية والغذائية، حيث يتم تنظيم هذه الأمور من خلال لجنة المهجع التي يتساوى جميع المعتقلينأمامها، أي من لديه زيارة أو لا،يشركونه بها من ناحية التعامل، أليست هذه إحدى تطبيقاتالاشتراكية على أرض الواقع؟ بلى.
كما نتعرف إلى الجلّاد والتشريفة، والشراقة، والزنزانة وكم سجن يحتوي الجناح، كما نمشي مع ذاكرة السجين وهي تحاول أن تتلمس رائحة دمشق قبل الاتجاه نحو سجن تدمر في سيارة الشرطة العسكرية، ونتعرف إلى كيفية إغلاق عيون المعتقلين، وحفلات التعذيب، والحصول على الاعترافات.
أفرد نصار،حيزاً لابأس به للحديث عن سجناء حزب البعث العربي الديمقراطي، والذي كان يُعرف بجماعة 23 شباط، وباص أبو قصي سويدان ودلالات حجز مقعد خاص بالباص، والقصد هو أولئك الذين يفقدون السيطرة على أعصابهم بعد سنوات في السجن فيدخلون في عالم الاضطراب النفسي، الذي نسميّه نحن العوام، بالجنون. ولكي يمرّ الزمن الثقيل هناك، كان لابدّ من حكاية كهذه ليتكئ عليها المزاج العام للمعتقلين لصنع النكتة، حتى لو كان الراكب الجديد في باص أبو قصي، عاقلاً تماماً.
لغة نصار، قاموسه، مختار بعناية وهدوء:”اليوم الأول في ضيافتهم، أصعد وأهبط بين جدارية ثيابي المعلقة على أصابع التعب، ونهار يطول حتى منتصف الليل بين عري جسدي المتشظي غداة النحافة الأخيرة. لكثرة ماراودني السؤال: لماذا يفضلون الجسد العاري؟ ربّ قائل: إن عنفوان الكابل وصرير صوت الكرسي يتلذذ ملامسة العري أكثر من ثنايا الألبسة المتهالكة على روحها”.
الخروج من سجن الإيديولوجيا
بين الاشتغال على اللغة والوثيقة، كانت حكاية خروج نصار من حزب العمل الشيوعي، لابل هو خروج من الإيديولوجيا:”كنتُ أختلي مع نفسي، باتت تجذبني النصوص في جمالية حروفها، وتوقفت عن البحث عن المعلومة! كما اعتدنابوجود رقيب داخلي ماركسي صارم، يجب عليك أن تنظر للكتاب تبعاً (لماديته التاريخية والديالكتيكية) وإلا عليك أن تطلع عليه وتضعه في الأرشيفبمصادرة صريحة: يخدم أو لايخدم أفكارنا الثابتة، ثم إدراجه ضمن المصفوفة الطبقية!”.
وضمن حواره مع حسام يذكر:”تجربة الانتماء للحزب تجربة أعتز بها، إنما هي ماض لاجدوى منه، باختصار ياحسام: أتعمق في عالمي الداخلي، وأبحث عن معنى وجوي ضمن هذا الشفاط.
إذاً ترك الحزب كتنظيم سياسي، داخل المعتقل مسألة كان لها تبعات نفسية وعقاب غير مباشر من قبل رفاق الأمس. وأخذت الكثير من التفكير والتحليل والقراءة، منه ومن رفاقه الذين غادروا التنظيم وكانوا معه طبعاً في السجن.
القراءة والمسرح
سيتمكن القارئ من العبور مع نصار إلى ضفاف الحياة التي عاشوها داخل قضبان السجون، صيدنايا، تدمر، وسجن فرع التحقيق، وماهي أهمية القراءة، المطالعة في عالم السجن، وكيفيتها، حلقات، أم قراءة فردية، محاولات جدية للتحضير لعرض مسرحي، وجلسات التحضير والقراءة، ماهي الأدوات، كيف يمكن أن يمثل هؤلاء العرض،ثم الخيبة وعدم تقديم العرض. ومعه نتعرف إلى فرويد ومعه جورج طرابيشي ونيتشة وغيرهم وهم يحاورون العقول ويناقشونها، وتأثيرات الأحداث السياسية الكبرى التي عاصروها وارتداداتها عليهم ومنها البيروسترويكا، ولاحقاً انهيار الاتحاد السوفييتي، انهيار جدار برلين. والأهم من كل هذا، كيف غيّرت هذه القراءات المعتقلين، وطوّرت آليات تفكيرهم ونقدهم حتى لحزبهم وغيره من الأحزاب السياسية المعارضة في تلك الأيام.
لم يكتب نصار من أجل الكتابة وإنما ليطرح الأسئلة الموجعة وربما ليقول كما قال محمد ابراهيم في تقديمه لهذا الكتاب: هل يمكن للإنسان أن ينجو من دون أن يحكي؟ وهل يمكن للحكاية أن تنجو دون أن تروى؟
من وحي الكتاب
من يقرأ هذا الكتاب، الصادر عن دار “نوس هاوس” لابد ستخطر على باله أسئلة كثيرة ومنها: متى ينتهي ملف الاعتقال السياسي في سوريا؟ وهل انتهى هذا الملف بسقوط الأسد؟
لماذا كل هذا القمع الذي تمت ممارسته على فئة من السوريين الذين يملكون رأياً سياسياً مختلفاً؟ هل يمكن لأحد أن يتخيل أن يمضي الإنسان عشر سنوات أو 15 سنة في المعتقل والتهمة معاداة أهداف الثورة، ووهن نفسية الأمة، والانتماء لجمعية سياسية ممنوعة. هل تتخيل عزيزي القارئ معنى أن يدخل المعتقل في عمر الـ 25 ويخرج بعمر الأربعين، أي أنّ زهرة شبابه قد قضاها في السجون.
وفي المجتمع الذي دافع عنه هؤلاء، كان هناك قسمٌ، يقف ضدهم، ويهاجم أفكارهم وطروحاتهم!
كم تفككت أسر؟ وكم عدد الزوجات اللواتي طلقن أزواجهن بسبب السجن؟ هل من أحد يتخيل كم هو غال هذا العمر الذي سرقه الأسد من الناس، فقط لأنهم يريدون لبلدهم أن يكون أفضل وأعدل وأكثر إنسانية!
قبل طباعة هذا الكتاب التقيت نصار في هولندا حيث يقيم ودارت بيننا حوارات طويلة حول السجن والحياة والثقافة والعشق والنساء، نصار يمضي أغلبية أيامه في مكتبة المدينة حاملاً كمبيوتره المحمول يصرّ على التفاؤل ومحاولة الفهم عبر القراءة ومتابعة القراءة.
نظام الأسد كانت غايته اعتقال كامل المجتمع من خلال اعتقال المئات أو الآلاف، ونجح لعقود بتحويل سورية لبلد الخوف والرعب.وعطّل إمكانيات النمو الاقتصادي لمصلحة إنشائيات المقاومة والكذب.
إلى متى يبقى السجن متكوماً في دواخلنا كدملة
يذكر أيضاً محمد ابراهيم في مقدمته للكتاب:”إلى متى يبقى السجن متكوّماً في دواخلنا كدملة؟ سؤال لايبحث عن إجابة بقدر ما يفتح الباب أمام الوجع النقي الذي ينزف بصدق. سؤال يتأرجح بين خيبة الأجوبة ويقين الحلم ورفض أن يختزل في كابوس، سؤال معلق فوق رؤوسنا ينوس بين انكسار الحلم إلى مايشعل الروح حنيناً في لحظة تفاؤل، سؤال ينوس بين ثقل اليقينيات وخفة التساؤل المنفتح على كل الأجوبة”.
عن باص أبو قصي أيضاً
عندما كان نصار ومعه الآلاف في السجون، بسبب آرائهم السياسية، كان هناك في الخارج بشر يسرقون الناس ويكذبون ويتحدثون عن ديمقراطية حافظ الاسد، وكان المخبرون يتابعون هوايتهم في كتابة التقارير، وكانت كوريا الشمالية السورية وتلفزيونها الرسمي يتابع تقديم برامجه المعتادة، ولم ينقطع البث عندما مات إحسان عزو في سجن صيدنايا، وكريم الحج حسين في سجن فرع التحقيق. وعندما كان باص أبو قصي يمتلئ فعلياً بمن وصل حد الجنون في السجن، كان الجنون السياسي الأسدي والمجتمعي مستمراً في التصاعد، وكان الكذب الاجتماعي والنفاق والتفكك على أشده، إنه باص الأسد يا صديقي نصار. باص العقيدة القاتلة.
آخر المقالات
- قراءة في رواية “في المطار أخيراً” – بقلم نصّار يحيى
- قراءة في رواية “في المطار أخيراً” – بقلم طارق بنات
- بُرهان شاوي وسلسلة روايات “المطهر” – لقاء أجراه الكاتب والإعلامي رامي فارس الهركي لصالح قناة زاكروس
- قراءة في “رشقة سماء تنادم قلب العابر” – بقلم صبري رسول
- قراءة في “رشقة سماء تنادم قلب العابر – بقلم إبراهيم محمود



